إن كتاب الأستاذ الدكتور عزالعرب إدريسي أزمي الجديد المعنون ب"قضايا في الأدب والنقد" من الكتب التي تفرض حضورها عليك وتجعلك في شغف التعرف على مضمونه وتحديد مواضيعه وقضاياه النقدية التي يعالجها من خلال فصول وأبواب متعددة تقارب قضايا عولجت شعريا من طرف شعراء عرب كبار تركوا بصماتهم في تاريخ الشعر العربي والأدب العربي عموما .
لقد تناول الكتاب الجديد للدكتور أزمي قضايا في غاية الأهمية لارتباطها بالحياة البدوية والاجتماعية والسياسية عند العرب وشعرائهم بعناصر البقاء والصمود والتفوق والتفاخر والصراع والتقاتل... وغيرها من العناصر التي شكلت العلاقات المتبادلة بين القبائل والأقوام المنتشرة في البادية العربية قديما. وهذا ما يمكننا من القول أن هذا الكتاب يعتبر قيمة مضافة إلى المكتبة النقدية، لما يتضمنه من مادة متميزة وممتعة في الجمع والتحليل...
فمن حيث الموضوع يعالج الكتاب قضايا متعددة، مثل التشابه والتناظر في الشعر العربي، وبداية الشعر العربي، وشعر اللصوص، وشعر النقائض، والنظرية الشعرية عند الشعراء، والناقة في الأدب العربي، وفنون الشعر في العصر المملوكي، وأخيراً أضواء على موقف الأدب الإسلامي من الجنس. حيث نجده في القضية الأولى قد رصد ظاهرة التناظر والتشابه في الأشعار منذ العصر الجاهلي، معتبرا أن هذه الظاهرة تختلف كليا عن السرقة الأدبية، بل هي مجرد توارد لخواطر، أو من باب تكرار بعض الأبيات في قصائد متميزة أثرت في سامعيها. بل ربطها المؤلف بما يسمى في النقد الحديث بالتناص .
ويرى القدماء أن التشابه أمر طبيعي في الأشعار العربية، يقول المؤلف، ومن هؤلاء نجد عبدالله بن عباس الفقيه المتضلع والمطلع على شؤون الأدب، بل نجد بعضهم يرى أن التشابه في ذلك الشعر راجع إلى الانتحال، من حيث أن الصانع الواحد أو مجموعة من الصناع المتقاربين في طبقتهم وأزمنتهم، لايستطيعون إخفاء هويتهم مهما حاولوا وبذلوا من جهد .
ويرى الدكتور عزالعرب أزمي أيضا، أن تشابه الأشعار وتناظرها يعود أمرها إلى أعمال بعض الرواة الذين يتدخلون في القصيدة الشعرية، من أجل الإصلاح والتهذيب وفق ما يتميزون به من معارف جاهزة، أو قد يخضع للصدفة، بل أن التشابه والتناظر في الأشعار وغيرها –يقول المؤلف- يعتبر سمة عامة بين مختلف الأمم بسبب اتفاق ظروف الحياة فيها واتحاد الشروط الثقافية داخلها، خاصة وأن العرب كانوا يعيشون في بيئة متشابهة .
1- الشعر العربي القديم وشعر اللصوص :
يتضح من توزيع مادة الكتاب وطبيعة المعلومات التي يعرضها المؤلف والقضايا التي يعالجها أنه يقدم للقارئ دراسة متكاملة لقضية بداية الشعر العربي القديم، من خلال أولية الشعر حسب مدرستين مختلفتين، وهما مدرسة البصرة التي ترى بأن البداية الأولى كانت قبل مجيء الإسلام بمائة وخمسين (150) عاما، ودرسة الكوفة التي ترى بأن البداية كانت أكثر من ذلك بكثير وقد حددت ذلك في أربعمائة (400) عام .
فالجاحظ مثلا يقول في مسألة بداية الشعر أنه حديث الميلاد وصغير السن، وأن أول من نهج سبيله وسهل الطريق إليه هو امرؤ القيس بن حجر، والمهلهل بن ربيعة...، بينما يعتبر المؤلف أن بداية الشعر أعظم من هذا التاريخ وأطول، ولكن التاريخ لم يحتفظ لنا بهذا الشعر وإنما احتفظ بالقدر الذي ذكره الجاحظ، لأنه قريب من مرحلة التدوين، وعهدي بالدكتور أزمي يتفق مع مدرسة الكوفة في ذهابها بأن بداية الشعر العربي تعود إلى مئات السنين قبل مجيء الإسلام .
ويستند المؤلف في رأيه هذا إلى رأي الكوفة الذي مثلته قولة "أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب"، الذي يتجاوز بالقصيدة العربية أربعة قرون مع الإحجام عن تحديد بداية المقطوعة أو ما في حكمها من أبيات شاردة. فعلماء الكوفة، يقول الدكتور أزمي، كانوا أشد إحاطة بالأشعار العربية من علماء البصرة.
لقد أولى المؤلف أهمية خاصة لشعر اللصوص الذي يعتبر مادة هامة في صدر الإسلام والدولة الأموية على الخصوص، فنجد أبا سعيد السكري قد ألف في أخبار اللصوص. ويعتبر المؤلف أن النص الطويل الذي يبين الطرق التي كان يستعملها الأمويون في تتبع اللصوص ومطاردتهم له من الأهمية التي جعلت التبريزي يدرجه في كتابه "شرح حماسة أبي تمام". وحتى تكتمل معالجة هذه القضية حرص الدكتور أزمي على شرح معنى اللص من خلال بعض المعاجم العربية، وربطه بالشعر من خلال الحديث عن زمرة مهمة من شعراء اللصوص في الأدب العربي، ونجد منهم: جحدر الجشني، وجحدر بن مالك العكلي، وجحدر بن معاوية المحرزي، والأحول بن مسلم بن أبي قيس الأزدي، والأحيمر السعدي،... وغيرهم. كما أنه لم يفت المؤلف أن يتحدث عن لصوص الإبل من خلال أشعار قيلت في الخرابة، ومنها قول ذي الرمة وهو يتحدث عن ناقته:
فجاءتْ كذوذِ الخاربَيْنِ يشلها
محك تماداهُ صحارِ صرادحُ .
2- نقائض جرير والفرزدق :
تجاوز المؤلف في كتابه هذا المنحى التخصصي الضيق لمسألة ولقضية محددة، إلى المعالجة المتكررة للموضوع بنظرة شاملة بحيث جمع بين العرض التاريخي والرؤية النقدية دون أن يهمل التحليل الرزين للمسائل ومناقشة كل قضية على حدة، وهذا ما مكنه من الإلمام بكل القضايا التي تحدث عنها في كتابه، بل سمحت له ثقافته الواسعة حول قضايا الشعر العربي القديم وقدرته الإبداعية على إبداع القصيدة المقفاة والموزونة، لكي يظهر لنا مدى اهتمامه الواضح بهذه القضايا الأدبية المهمة في شعرنا العربي.
التزم الدكتور أزمي برؤية شاملة لقضية شعر النقائض التي عرفت الكثير من الجدل والاختلاف في وجهات النظر عند النقاد العرب القدامى والمعاصرين، وبذلك فقد نجح في تبسيط المفهوم من خلال المعاجم العربية، ليمر إلى الحديث عن النقائض التي حدثت بين الشاعرين أنس بن زنيم وحارثة بن بدر والظروف الاجتماعية والسياسية التي أنتجت هذه النقائض بين الشاعرين المذكورين .
حرض الدكتور أزمي على معالجة صورة الأم والمرأة في النقائض التي تتعرض إلى عدد من نساء الخصم، والتي تحول مجتمع النساء إلى انحراف لايجف ماؤهن كما يكشف هذا اللون الشعري عن جملة من الحقائق التي كانت تقترن بالعملية الشعرية من سائر جوانبها. فالنقائض حسب المؤلف كانت قد قسمت معظم الشعراء في أيام جرير والفرزدق والأخطل إلى حزبين كبيرين، حزب يضم الفرزدق ومن معه، وحزب يضم جريرا ومن معه، باعتبار شعر النقائض كان عصر إلهاب للشاعرية بما يوفره من أسباب التوجع والتهييج، وأنه عنصر تحفيز ذهني للشاعر ودافع قوي للإنتاج والإبداع .
فشعر النقائض عند جرير والفرزدق –يقول المؤلف- هو فن يظهر القوة الشاعرية وتحكيك الأشعار ولسيرورتها والعجز عن مضاهاتها ونقضها. كما أنه قد تميز بسرعة الانتشار بين الناس حتى يصل إلى أبعد نقطة من بلاد العرب. فالنقيضة حسب المؤلف تنصرف إلى سائر المقومات فتهدمها أو توجهها، أو تخلق لها بدائل مع استعمال الأفاظ والعبارات التي تنم عن النقض. فهي تهتم اهتماما مبالغا فيه بالصورة الشعرية وخاصة في الهجاء، كما أن النقيضة هي عبارة عن معجم هائل من الكلمات المتدنية والعبارات البذيئة، ومسرحا لوصف الكثير من الوقائع والمواقف غير المقبولة والممجوجة داخل المجتمع العربي القديم .
3- تعريف الشعر :
إن كتاب "قضايا في الأدب والنقد" باعتباره دراسة مركزة تنطلق من خلفية نقدية لتنتهي إلى قناعة فكرية وإلى دعوة ملحة لمراجعة شعرنا العربي وتحليل مظاهره وقضاياه المتعددة، أثار من جديد النظرية الشعرية عند الشعراء التي كانت واقعة في كثير من عينات المكتبة القديمة، من خلال انتقاد الأشعار، والإشارة إلى عيوب الشعر الحاصلة في أشعار الجاهليين، وإلى السرقات، وإلى التشابه الذي يقع بين بعض الأشعار نتيجة لظروف معينة.
إن تعريف الشعر –حسب المؤلف- جاء متأخرا نظرا لعدم التفات النقاد إلى ذلك الأمر، فنجد أن تعريف الشعر ذهب إلى الإشارة إلى سمات الجودة، والحرص على الإتقان، وتوفير عنصر الصدق والابتعاد عن الإحالة. فهو تعريف –يقول الدكتور أزمي- يجعل من الشعر خلاصة عقل المرء وقوة تفكيره، يحمل إلى المتلقين مختلف آراء الشاعر. ولذلك فلا بد للشعر من أن يسوده منطق معين، سواء كان يستهدف الخير أو الشر. وفي ذلك يقول أحد الشعراء :
الشعراءُ فاعلمن أربعهْ
فشاعر لا يرتجى لمنفعه .
وشاعرٌ ينشد وسْط المجمعهْ .
وشاعرٌ آخر لا يجرى معهْ .
وشاعرٌ يقال خمرٌ في دعهْ .
إن الطبع والصنعة من القضايا التي أثارها النقد الشعري، فأصحاب الطبع لايشيرون إلى كون ما يصدر عنهم يأتي غالبا دون تفكير أو روية، فيصبح سهلا ميسورا، بينما أصحاب الصنعة يكثرون من الإشارة إلى تحكيكهم وتهذيبهم وتنقيحهم وحسن اختيارهم لما تعرضه البديهة وقرب المآتي .
4- الناقة في الأدب العربي :
يلاحظ في الكتاب أيضا تركيزه على وصف الناقة في الأدب العربي القديم، إذ نجد فيه الكثير من الإشارات إلى الناقة في الشعر العربي، وأنواعها الكثيرة كما فصل فيها القول ابن سِيدَهْ في كتابه المخصص، ذاكرا أسماءها المتنوعة انتهاء ببعض تأملات الماجنين في الجمل والناقة. هذا التركيز أضفى إلى الكتاب تكاملا في الرؤية النقدية وتوازنا في معالجة كل قضية على حدة، وهذا ما نجده في كل فصل يتحدث عن الناقة في أشعار الشعراء العرب نذكر منهم: زهير بن أبي سلمى، وطَرفة، وبني عبدالقيس، وذي الرمة، والحطيئة، ... وغيرهم من الشعراء الذين تركوا بصماتهم في الشعر العربي .
وانطلاقا من الطرح الصريح والمباشر لإشكالية فنون الشعر من حيث التحديات المرتبطة بها والأجوبة التي تتطلبها فقد خلص المؤلف إلى تحديد فنون الشعر في العصر المملوكي الذي تميز بالضعف والقوة في هذه الفترة، لأنه لم ينقطع أو ينتهي رغم تغير الأحوال السياسية والاجتماعية والثقافية، لكنه عرف بعض الضعف وتعرض لبعض التراجع في الصنعة والتفوق الشعري، نظرا لتقلص شأن الشعر وبوار بضاعته وانصراف الشعراء إلى حرفهم الخاصة بهم من أجل العيش .
إن هذا المؤلف المتميز للدكتور عز العرب إدريسي أزمي يعتبر بحق استجابة موفقة لحاجة المكتبة النقدية المغربية والعربية ولتطلعات القارئ والباحث والطالب ولتساؤلاتهم. فقد وضع العديد من القضايا النقدية والأدبية موضع بحث ونقاش ومراجعة، ووضع أسس البحث فيها من جديد فيما يتعلق بقضايا مختلفة، نذكر منها النظرية الشعرية عند الشعراء، وموقف الأد الإسلامي من الجنس، من خلال موقف الإسلام من الجنس وموقف الآداب العالمية منه أيضا. فالكتاب في حد ذاته يعتبر إسهاما فكريا ونقديا يندرج ضمن الجهد الفكري للأكاديمي الذي يجدد مواقفه الفكرية كلما رأى ضرورة لذلك، وهذا ما قام به الدكتور أزمي في هذا الكتاب الممتع والمفيد .